فصل: سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة:

.ذكر موت توزون وإمارة ابن شيرزاد:

في هذه السنة، في المحرم، مات توزون في داره ببغداد، وكانت مدة إمارته سنتين وأربعة أشهر وتسعة عشر يوماً، وكتب له ابن شيرزاد مدة إمارته، غير ثلاثة أيام.
ولما مات توزون كان ابن شيرزاد بهيت لتخليص أموالها، فلما بلغه الخبر عزم على عقد الإمارة لناصر الدولة بن حمدان، فاضطربت الأجناد، وعقدوا الرئاسة عليهم لابن شيرزاد، فحضر ونزل بباب حرب مستهل صفر، وخرج عليه الأجناد جميعهم، واجتمعوا عليه، وحلفوا له، ووجه إلى المستكفي بالله ليحلف له، فأجابه إلى ذلك، وحلف له بحضرة القضاة والعدول، ودخل إليه ابن شيرزاد، وعاد مكرماً يخاطب بأمير الأمراء، وزاد الأجناد زيادة كثيرة، فضاقت الأموال عليه، فأرسل إلى ناصر الدولة مع أبي عبدالله محمد بن أبي موسى الهاشمي، وهو بالموصل، يطالبه بحمل المال، ويعده برد الرئاسة إليه، وأنفذ له خمسمائة ألف درهم وطعاماً كثيراً، ففرقها في عسكره، فلم يؤثر، فقسط الأموال على العمال والكتاب والتجار وغيرهم لأرزاق الجند وظلم الناس ببغداد.
وظهر اللصوص، وأخذوا الأموال، وجلا التجار، واستعمل على واسط ينال كوشة، وعلى تكريت اللشكري، فأما ينال فإنه كاتب معز الدولة بن بويه، واستقدمه، وصار معه، وأما الفتح اللشكري فإنه سار إلى ناصر الدولة بالموصل، وصار معه، فأقره على تكريت.

.ذكر استيلاء معز الدولة على بغداد:

لما كاتب ينال كوشة معز الدولة بن بويه، وهو بالأهواز، ودخل في طاعته، وسار معز الدولة نحوه، فاضطرب الناس ببغداد، فلما وصل إلى باجسرى اختفى المستكفي بالله وابن شيرزاد، وكانت إمارته ثلاثة أشهر وعشرين يوماً، فلما استتر سار الأتراك إلى الموصل، فلما أبعدوا ظهر المستكفي وعاد إلى بغداد إلى دار الخلافة، وقدم أبو محمد الحسن بن محمد المهلبي، صاحب معز الدولة، إلى بغداد، فاجتمع بابن شيرزاد بالمكان الذي استتر فيه ثم اجتمع بالمستكفي، فأظهر المستكفي السرور بقدوم معز الدولة، وأعلمه أنه إنما استتر من الأتراك ليتفرقوا فيحصل الأمر لمعز الدولة بلا قتال.
ووصل معز الدولة إلى بغداد حادي عشر جمادى الأولى، فنزل ببال الشماسية، ودخل من الغد على الخليفة المستكفي وبايعه، وحلف له المستكفي، وسأله معز الدولة أن يأذن لابن شيرزاد بالظهور، وأن يأذن أن يستكتبه، فأجاب إلى ذلك، فظهر ابن شيرزاد، ولقي معز الدولة، فولاه الخراج، وجباية الأموال، وخلع الخليفة، على معز الدولة، ولقبه ذلك اليوم معز الدولة، ولقب أخاه علياً عماد الدولة، ولقب أخاه الحسن ركن الدولة، وأمر أن تضرب ألقابهم وكناهم على الدنانير والدراهم.
ونزل معز الدولة بدار مؤنس، ونزل أصحابه في دور الناس، فلحق الناس من ذلك شدة عظيمة، وصار رسماً عليهم بعد ذلك، وهو أول من فعله ببغداد، ولم يعرف بها قبله، وأقيم للمستكفي بالله كل يوم خمسة آلاف درهم لنفقاته، وكانت ربما تأخرت عنه، فأقرت له مع ذلك ضياع سلمت إليه تولاها أبو أحمد الشيرازي كاتبه.

.ذكر خلع المستكفي بالله:

وفي هذه السنة خلع المستكفي بالله لثمان بقين من جمادى الآخرة.
وكان سبب ذلك أن علماً القهرمانة صنعت دعوة عظيمة حضرها جماعة من قواد الديلم والأتراك، فاتهمها معز الدولة أنها فعلت ذلك لتأخذ عليهم البيعة للمستكفي ويزيلوا معز الدولة، فساء ظنه لذلك لما رأى من إقدام علم، وحضر أصفهدوست عند معز الدولة، وقال: قد راسلني الخليفة في أن ألقاه متنكراً.
فلما مضى اثنان وعشرون يوماً من جمادى الآخرة حضر معز الدولة والناس عند الخليفة، وحضر رسول صاحب خراسان، ومعز الدولة جالس، ثم حضر رجلان من نقباء الديلم يصيحان، فتناولا يد المستكفي بالله، فظن أنهما يريدان تقبيلها، فمدها إليهما، فجذباه عن سريره، وجعلا عمامته في حلقه، ونهض معز الدولة، واضطرب الناس، ونهبت الأموال، وساق الديلميان المستكفي بالله ماشياً إلى دار معز الدولة، فاعتقل بها، ونهبت دار الخلافة حتى لم يبق بها شيء وقبض على أبي أحمد الشيرازي كاتب المستكفي، وأخذت علم القهرمانة فقطع لسانها.
وكانت مدة خلافة المستكفي سنة واحدة وأربعة أشهر، وما زال مغلوباً على أمره مع توزون وابن شيرزاد، ولما بويع المطيع لله سلم إليه المستكفي، فسلمه وأعماه، وبقي محبوساً إلى أن مات في ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، وكان مولده ثالث عشر صفر سنة ست وتسعين ومائتين، وأمه أم ولد اسمها غصن، وكان أبيض، حسن الوجه، قد وخطه الشيب.

.ذكر خلافة المطيع لله:

لما ولي المستكفي بالله الخلافة خافه المطيع، وهو أبو القاسم الفضل بن المقتدر، لأنه كان بينهما منازعة، وكان كل منهما يطلب الخلافة، وهو يسعى فيها، فلما ولي المستكفي خافه واستتر منه، فطلبه المستكفي أشد الطلب، فلم يظفر به، فلما قدم معز الدولة بغداد قيل إن المطيع انتقل إليه، واستتر عنده، وأغراه بالمستكفي حتى قبض عليه وسلمه، فلما قبض المستكفي بويع للمطيع لله بالخلافة يوم الخميس ثاني عشر جمادى الآخرة، ولقب المطيع لله، وأحضر المستكفي عنده، فسلم عليه بالخلافة، وأشهد على نفسه بالخلع.
وازداد أمر الخلافة أدباراً، ولم يبق لهم من الأمر شيء البتة، وقد كانوا يراجعون ويؤخذ أمرهم فيما يفعل، والحرمة قائمة بعض الشيء، فلما كان أيام معز الدولة زال ذلك جميعه بحيث أن الخليفة لم يبق له وزير إنما كان له كاتب يدبر إقطاعه وإخراجاته لا غير، وصارت الوزارة لمعز الدولة يستوزر لنفسه من يريد.
وكان من أعظم الأسباب في ذلك أن الديلم كانوا يتشيعون، ويغالون في التشيع، ويعتقدون أن العباسيين قد غضبوا الخلافة وأخذوها من مستحقيها فلم يكن عندهم باعث ديني يحثهم على الطاعة، حتى لقد بلغني أن معز الدولة استشار جماعة من خواص أصحابه في إخراج الخلافة من العباسيين والبيعة للمعز لدين الله العلوي، أو لغيره من العلويين، فكلهم أشار عليه بذلك ما عدا بعض خواصه فإنه قال: ليس هذا برأي، فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مستحلين دمه، ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك من يعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لفعلوه، فأعرض عن ذلك؛ فهذا كان من أعظم الأسباب في زوال أمرهم ونهبهم مع حب الدنيا وطلب التفرد بها.
وتسلم معز الدولة العراق بأسره، ولم يبق بيد الخليفة منه شيء البتة، إلا ما أقطعه معز الدولة مما يقوم ببعض حاجته.

.ذكر الحرب بين ناصر الدولة ومعز الدولة:

وفيها، في رجب، سير معز الدولة عسكراً فيهم موسى فيادة وينال كوشة إلى الموصل في مقدمته، فلما نزلوا عكبرا أوقع ينال كوشة بموسى فيادة، ونهب سواده، ومضى هو ومن معه إلى ناصر الدولة، وكان قد خرج من الموصل نحو العراق، ووصل ناصر الدولة إلى سامرا في شعبان، ووقعت الحرب بينه وبين أصحاب معز الدولة بعكبرا.
وفي رمضان سار معز الدولة مع المطيع لله إلى عكبرا، فلما سار عن بغداد لحق ابن شيرزاد بناصر الدولة، وعاد إلى بغداد مع عسكر لناصر الدولة، فاستولوا عليها، ودبر ابن شيرزاد الأمور بها نيابة عن ناصر الدولة، وناصر الدولة يحارب معز الدولة، فلما كان عاشر رمضان سار ناصر الدولة من سامرا إلى بغداد فأقام بها، فلما سمع معز الدولة الخبر سار إلى تكريت فنهبها لأنها كانت لناصر الدولة، وعاد الخليفة معه إلى بغداد، فنزلوا بالجانب الغربي، ونزل ناصر الدولة بالجانب الشرقي، ولم يخطب للمطيع ببغداد.
ثم وقعت الحرب بينهم ببغداد، وانتشرت أعراب ناصر الدولة بالجانب الغربي، فمنعوا أصحاب معز الدولة من الميرة والعلف، فغلت الأسعار على الديلم، حتى بلغ الخبز عندهم كل رطل بدرهم وربع، وكان السعر عند ناصر الدولة رخيصاً، كانت تأتيه الميرة في دجلة من الموصل، فكان الخبز عنده كل خمسة أرطال بدرهم.
ومنع ناصر الدولة من المعاملة بالدنانير التي عليها اسم المطيع، وضرب دنانير ودراهم على سكة سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة وعليها اسم المتقي لله، واستعان ابن شيرزاد بالعيارين والعامة على حرب معز الدولة، فكان يركب في الماء، وهم معه، ويقاتل الديلم.
وفي بعض الليالي عبر ناصر الدولة في ألف فارس لكبس معز الدولة، فلقيهم أسفهدوست فهزمهم، وكان من أعظم الناس شجاعة، وضاق الأمر بالديلم حتى عزم معز الدولة على العود إلى الأهواز، وقال: نعمل معهم حيلة هذه المرة، فإن أفادت وإلا عدنا؛ فرتب ما معه من المعابر بناحية الثمارين، وأمر وزيره أبا جعفر الصيمري وأسفهدوست بالعبور، ثم أخذ معه باقي العسكر، وأظهر أنه يعبر في قطربل، وسار ليلاً ومعه المشاعل على شاطئ دجلة، فسار أكثر عسكر ناصر الدولة بإزائه ليمنعوه من العبور، فتمكن الصيمري وأسفهدوست من العبور، فعبروا وتبعهم أصحابهم.
فلما علم معز الدولة بعبور أصحابه عاد إلى مكانه، فعلموا بحيلته، فلقيهم ينال كوشة في جماعة أصحاب ناصر الدولة، فهزموه واضطرب عسكر ناصر الدولة، وملك الديلم الجانب الشرقي، وأعيد الخليفة إلى داره في المحرم سنة خمس وثلاثين وغنم الديلم ونهبوا أموال الناس ببغداد، فكان مقدار ما غنموه ونهبوه من أموال المعروفين دون غيرهم عشرة آلاف ألف دينار، وأمرهم معز الدولة برفع السيف والكف عن النهب وأمن الناس فلم ينتهوا، فأمر وزيره أبا جعفر الصيمري، فركب وقتل، وصلب جماعة وطاف بنفسه فامتنعوا.
واستقر معز الدولة ببغداد، وأقام ناصر الدولة بعكبرا، وأرسل في الصلح بغير مشورة من الأتراك التوزونية، فهموا بقتله، فسار عنهم مجداً نحو الموصل، ثم استقر الصلح بينه وبين معز الدولة في المحرم سنة خمس وثلاثين.

.ذكر وفاة القائم وولاية المنصور:

في هذه السنة توفي القائم بأمر الله أبو القاسم محمد بن عبيدالله المهدي العلوي صاحب إفريقية لثلاث عشرة مضت من شوال، وقام بالأمر بعده ابنه إسماعيل وتلقب المنصور بالله، وكتم موته خوفاً أن يعلم بذلك أبو يزيد، وهو بالقرب منه على سوسة، وأبقى الأمور على حالها، ولم يتسم بالخليفة، ولم يغير السكة، ولا الخطبة، ولا البنود، وبقي على ذلك إلى أن فرغ من أمر أبي يزيد، فلما فرغ منه أظهر موته، وتسمى بالخلافة، وعمل آلات الحرب والمراكب، وكان شهماً شجاعاً وضبط الملك والبلاد.

.ذكر إقطاع البلاد وتخريبها:

فيها شغب الجند على معز الدولة بن بويه، وأسمعوه المكروه، فضمن لهم إيصال أرزاقهم في مدة ذكرها لهم، فاضطر إلى خبط الناس، وأخذ الأموال من غير وجوهها، وأقطع قواده وأصحابه القرى جميعها التي للسلطان وأصحاب الأملاك، فبطل لذلك أكثر الدواوين، وزالت أيدي العمال، وكانت البلاد قد خربت من الاختلاف، والغلاء، والنهب، فأخذ القواد القرى العامرة، وزادت عمارتها معهم، وتوفر دخلها بسبب الجاه، فلم يمكن معز الدولة العود عليهم بذلك.
وأما الأتباع فإن الذي أخذوه ازداد خراباً، فردوه وطلبوا العوض عنه، فعوضوا، وترك الأجناد الاهتمام بمشارب القرى وتسوية طرقها، فهلكت وبطل الكثير منها.
وأخذ غلمان المقطعين في ظلم وتحصيل العاجل، فكان أحدهم إذا عجز الحاصل تممه بمصادراتها.
ثم إن معز الدولة فوض حماية كل موضع إلى بعض أكابر أصحابه فاتخذه مسكناً وأطمعه، فاجتمع إليهم الإخوة، وصار القواد يدعون الخسارة في الحاصل، فلا يقدر وزيره ولا غيره على تحقيق ذلك، فإن اعترضهم معترض صاروا أعداء له، فتركوا وما يريدون، فازداد طمعهم، ولم يقفوا عند غاية، فتعذر على معز الدولة جمع ذخيرة تكون للنوائب والحوادث، وأكثر من إعطاء غلمانه الأتراك والزيادة لهم في الإقطاع، فحسدهم الديلم وتولد من ذلك الوحشة والمنافرة، فكان من ذلك ما نذكره.

.ذكر موت الإخشيد وملك سيف الدولة دمشق:

في هذه السنة، في ذي الحجة، مات الإخشيد أبو بكر محمد بن طغج، صاحب ديار مصر، وكان مولده سنة ثمان وستين ومائتين ببغداد، وكان موته بدمشق، وقيل مات سنة خمس وثلاثين، وولي الأمر بعده ابنه أبو القاسم أنوجور، فاستولى على الأمر كافور الخادم الأسود، وهو من خدم الإخشيد، وغلب أبا الاسم واستضعفه وتفرد بالولاية؛ وكافور هذا هو الذي مدحه المتنبي ثم هجاه.
وكان أبو القاسم صغيراً، وكان كافور أتابكه، فلهذا استضعفه، وحكم عليه، فسار كافور إلى مصر، فقصد سيف الدولة دمشق، فملكها وأقام بها، فاتفق أنه كان يسير هو والشريف العقيلي بنواحي دمشق، فقال سيف الدولة: ما تصلح هذه الغوطة إلا لرجل واحد؛ فقال له العقيلي: هي لأقوام كثيرة؛ فقال سيف الدولة: لئن أخذتها القوانين السلطانية لينبرون منها، فأعلم العقيلي أهل دمشق بذلك، فكاتبوا كافوراً يستدعونه، فجاءهم، فأخرجوا سيف الدولة عنهم سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، وكان أنوجور مع كافور، فتبعوا سيف الدولة إلى حلب، فخافهم سيف الدولة فعبر إلى الجزيرة، وأقام أنوجور على حلب، ثم استقر الأمر بينهما، وعاد أنوجور إلى مصر وعاد سيف الدولة إلى حلب، وأقام كافور بدمشق يسيراً، وولي عليها بدر الإخشيدي، ويعرف ببدير، وعاد إلى مصر، فبقي بدير على دمشق سنة، ثم وليها أبو المظفر بن طغج وقبض على بدير.

.ذكر مخالفة أبي علي على الأمير نوح:

وفي هذه السنة خالف أبو علي بن محتاج على الأمير نوح، صاحب خراسان وما وراء النهر.
وسبب ذلك أن أبا علي لما عاد من مرو إلى نيسابور وتجهز للمسير إلى الري أنفذ إليه الأمير نوح عارضاً يستعرض العسكر، فأساء العارض السيرة معهم، وأسقط منهم ونقص، فنفرت قلوبهم، فساروا وهم على ذلك وانضاف إلى ذلك أن نوحاً أنفذ معهم من يتولى أعمال الديوان، وجعل إليه الحل والعقد والإطلاق بعد أ، كان جميعه أيام السعيد نصر بن أحمد إلى أبي علي، فنفر قلبه لذلك، ثم إنه عزل عن خراسان واستعمل عليها إبراهيم بن سيمجور كما ذكرناه.
ثم إن المتولي أساء إلى الجند في معاملاتهم وحوائجهم وأرزاقهم، فازدادوا نفوراً، فشكا بعضهم إلى بعض، وهم إذ ذاك بهمذان، واتفق رأيهم على مكاتبة إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل عم نوح، واستقدامه إليهم ومبايعته وتمليكه البلاد. وكان إبراهيم حينئذ بالموصل في خدمة ناصرا الدولة، وكان سبب مسيره إليها ما ذكرناه قبل، فلما اتفقوا على ذلك أظهروا عليه أبا علي، فنهاهم عنه، فتوعدوه بالقبض عليه إن خالفهم، فأجابهم إلى ما طلبوا، فكاتبوا إبراهيم وعرفوه حالهم، فسار إليهم في تسعين فارساً، فقدم عليهم في رمضان من هذه السنة، ولقيه أبو علي بهمذان وساروا معه إلى الري في شوال، فلما وصلوا إليها اطلع أبو علي من أخيه الفضل على كتاب كتبه إلى الأمير نوح يطلعه على حالهم، فقبض عليه وعلى ذلك المتولي الذي أساء إلى الجند، وسار إلى نيسابور واستخلف على الري والجبل نوابه.
وبلغ الخبر إلى الأمير نوح، فتجهز وسار إلى مرو من بخارى، وكان الأجناد قد ملوا من محمد بن أحمد الحاكم المتولي للأمور، لسوء سيرته، فقالوا لنوح: إن الحاكم أفسد عليك الأمور بخراسان، وأحوج أبا علي إلى العصيان، وأوحش الجنود، وطلبوا تسليمه إليهم، وإلا ساروا إلى عمه إبراهيم وأبي علي، فسلمه إليهم، فقتلوه في جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين ولما وصل أبو علي إلى نيسابور كان بها إبراهيم بن سيمجور، ومنصور ابن قراتكين، وغيرهما من القواد، فاستمالهما أبو علي، فمالا إليه وصارا معه، ودخلها في المحرم سنة خمسة وثلاثين ثم ظهر له من منصور ما يكره فقبض عليه.
ثم سار أبو علي وإبراهيم من نيسابور في ربيع الأول سنة خمس وثلاثين إلى مرو، وبها الأمير نوح، فهرب الفضل أخو أبي علي من محبسه، احتال على الموكلين به وهرب إلى قوهستان فأقام بها، وسار أبو علي إلى مرو، فلما قاربها أتاه كثير من عسكر نوح، وسار نوح عنها إلى بخارى، واستولى أبو علي على مرو في جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين وأقام بها أياماً، وأتاه أكثر أجناد نوح وسار نحو بخارى، وعبر النهر إليها، ففارقها نوح وسار إلى سمرقند، ودخل أبو علي بخارى في جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، وخطب فيها لإبراهيم العم، وبايع له الناس.
ثم إن أبا علي اطلع من إبراهيم على سوء قد أضمره له، ففارقه وسار إلى تركستان، وبقي إبراهيم في بخارى، وفي خلال ذلك أطلق أبو علي منصور بن قراتكين فسار إلى الأمير نوح.
ثم إن إبراهيم وافق جماعة في السر على أن يخلع نفسه من الأمر ويرده إلى ولد أخيه الأمير نوح، ويكون هو صاحب جيشه، ويتفق معه على قصد أبي علي، ودعا أهل بخارى إلى ذلك، فأجابوه واجتمعوا وخرجوا إلى أبي علي وقد تفرق عنه أصحابه، وركب إليهم في خيل، فردهم إلى البلد أقبح رد، وأراد إحراق البلد، فشفع إليه مشايخ بخارى، فعفا عنهم وعاد إلى مكانه، واستحضر أبا جعفر محمد بن نصر بن أحمد، وهو أخو الأمير نوح، وعقد له الإمارة وبايع له، وخطب له في النواحي كلها.
ثم ظهر لأبي علي فساد نيات جماعة من الجند، فرتب أبا جعفر في البلد، ورتب ما يجب ترتيبه، وخرج عن البلد يظهر المسير إلى سمرقند، ويضمر العود إلى الصغانيان، ومنها إلى نسف، فلما خرج من البلد رد جماعة من الجند والحشم إلى بخارى، وكاتب نوحاً بإفراجه عنها.
ثم سار إلى الصغانيان في شعبان، ولما فارق أبو علي بخارى خرج إبراهيم وأبو جعفر محمد بن نصر إلى سمرقند مستأمنين إلى نوح، مظهرين الندم على ما كان منهم، فقربهم وقبلهم ووعدهم وعاد إلى بخارى في رمضان، وقتل نوح في تلك الأيام طغان الحاجب، وسمل عمه إبراهيم، وأخويه أبا جعفر محمداً وأحمد، وعادت الجيوش فاجتمعت عليه والأجناد، وأصلح الفساد.
وأما الفضل بن محمد أخو أبي علي فإنه لما هرب من أخيه كما ذكرناه ولحق بقوهستان، جمع جمعاً كثيراً وسار نحو نيسابور، وبها محمد بن عبد الرزاق من قبل أبي علي، فخرج منها إلى الفضل، فالتقيا وتحاربا، فانهزم الفضل ومعه فارس واحد، فلحق ببخارى فأكرمه الأمير نوح، وأحسن إليه وأقام في خدمته.

.ذكر استعمال منصور بن قراتكين على خراسان:

لما عاد الأمير نوح إلى بخارى، وأصلح البلاد، وكان أبو علي بالصغانيان، وبمرو أبو أحمد محمد بن علي القزويني، فرأى نوح أن يجعل منصور بن قراتكين على جيوش خراسان، فولاه ذلك، وسيره إلى مرو، وبها أبو أحمد، وقد غور المناهل ما بين آمل ومرو، ووافق أبا علي ثم تخلى عنه.
وسار إليه منصور جريدة في ألفي فارس، فلم يشعر القزويني إلا بنزول منصور بكشماهن على خمسة فراسخ من مرو، واستولى منصور على مرو، واستقبله أبو أحمد القزويني فأكرمه، وسيره إلى بخارى مع ماله وأصحابه، فلما بلغها أكرمه الأمير نوح وأحسن إليه إلا أنه وكل به، فظفر بعض الأيام برقعة قد كتبها القزويني بما أنكره، فأحضره وبكته بذنوبه، ثم قتله.

.ذكر مصالحة أبي علي مع نوح:

ثم إن أبا علي أقام بالصغانيان، فبلغه أن الأمير نوحاً قد عزم على تسيير عسكر إليه، فجمع أبو علي الجيوش وخرج إلى بلخ وأقام بها، وأتاه رسول الأمير نوح في الصلح، فأجاب إليه، فأبى عليه جماعة ممن معه من قواد نوح الذين انتقلوا إليه، وقالوا: نحب أن تردنا إلى منازلنا، ثم صالح فخرج أبو علي نحو بخارى، فخرج إليه الأمير نوح في عساكره، وجعل الفضل بن محمد أخا أبي علي صاحب جيشه، فالتقوا بجرجيك في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، وتحاربوا قبيل العصر، فاستأمن إسماعيل بن الحسن الداعي إلى نوح، وتفرق العسكر عن أبي علي فانهزم ورجع إلى الصغانيان.
ثم بلغه أن الأمير نوحاً قد أمر العساكر بالميسر إليه من بخارى وبلخ وغيرهما، وأن صاحب الختل قد تجهز لمساعدة أصحاب أبي علي، فسار أبو علي في جيشه إلى ترمذ، وعبر جيحون، وسار إلى بلخ، فنازلها، واستولى عليها وعلى طخارستان، وجبى مال تلك الناحية.
وسار من بخارى عسكر جرار إلى الصغانيان، فأقاموا بنسف ومعهم الفضل بن محمد بن أخو أبي علي، فكتب جماعة من قواد العسكر إلى الأمير نوح بأن الفضل قد اتهموه بالميل إلى أخيه، فأمرهم بالقبض عليه، فقبضوا عليه وسيروه إلى بخارى.
وبلغ خبر العسكر إلى أبي علي، وهو بطخارستان، فعاد إلى الصغانيان، ووقعت بينهم حروب، وضيق عليهم أبو علي في العلوفة، فانتقلوا إلى قرية أخرى على فرسخين من الصغانيان، فقاتلهم أبو علي في ربيع الأول سنة سبع وثلاثين قتالاً شديداً، فقهروه، وسار إلى شومان، وهي على ستة عشر فرسخاً من الصغانيان، ودخل عسكر نوح إلى الصغانيان، فأخربوا قصور أبي علي ومساكنه، وتبعوا أبا علي، فعاد إليهم واجتمع إليه الكتيبة، وضيق على عسكر نوح، وأخذ عليهم المسالك، فانقطعت عنهم أخبار بخارى، وأخبارهم عن بخارى، نحو عشرين يوماً، فأرسلوا إلى أبي علي يطلبون الصلح، فأجابهم إليه، واتفقوا على إنفاذ ابنه أبي المظفر عبدالله رهينة إلى الأمير نوح، واستقر الصلح بينهما في جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة.
وسير ابنه إلى بخارى، فأمر نوح باستقباله، فأكرمه وأحسن إليه، وكان قد دخل إليه بعمامة، فخلع عليه القلنسوة، وجعله من ندمائه، وزال الخلف.
وكان ينبغي أن نذكر هذه الحوادث في السنين التي هي فيها كانت، وإنما أوردناها متتابعة في هذه السنة لئلا يتفرق ذكرها.
هذا الذي ذكره أصحاب التواريخ من الخراسانيين، وقد ذكر العراقيون هذه الحوادث على غير هذه السياقة، وأهل كل بلد أعلم بأحوالهم، ونحن نذكر ما ذكره العراقيون مختصراً، قالوا: إن أبا علي لما سار نحو الري في عساكر خراسان كتب ركن الدولة إلى أخيه عماد الدولة يستمده، فأرسل إليه يأمره بمفارقة الري والوصول إليه لتدبير له في ذلك، ففعل ركن الدولة ذلك.
ودخل أبو علي الري، فكتب عماد الدولة إلى نوح سرّاً يبذل له في الري في كل سنة زيادة على ما بذله أبو علي مائة ألف دينار، ويعجل ضمان سنة، ويبذل من نفسه مساعدته على أبي علي حتى يظفر به وخوفه منه، فاستشار نوح أصحابه، وكانوا يحسدون أبا علي ويعادونه، فأشاروا عليه بإجابته؛ فأرسل نوح إلى ابن بويه من يقرر القاعدة ويقبض المال، فأكرم الرسول ووصله بمال جزيل، وأرسل إلى أبي علي يعلمه خبر هذه الرسالة، وأنه مقيم على عهده ووده، وحذره من غدر الأمير نوح، فأنفذ أبو علي رسوله إلى إبراهيم، وهو بالموصل، يستدعيه ليملكه البلاد، فسار إبراهيم، فلقيه أبو علي بهمذان، وساروا إلى خراسان.
وكتب عماد الدولة إلى أخيه ركن الدولة يأمره بالمبادرة إلى الري، فعاد إليه، واضطربت خراسان، ورد عماد الدولة رسول نوح بغير مال، وقال: أخاف أن أنفذ المال فيأخذه أبو علي؛ وأرسل إلى نوح يحذره من أبي علي ويعده المساعدة عليه، وأرسل إلى أبي علي يعده بإنفاذ العساكر نجدة له، ويشير عليه بسرعة اللقاء، وإن نوحاً سار فالتقى هو وأبو علي بنيسابور، فانهزم نوح وعاد إلى سمرقند، واستولى أبو علي بخارى، وإن أبا علي استوحش من إبراهيم فانقبض عنه.
وجمع نوح العساكر وعاد إلى بخارى، وحارب عمه إبراهيم، فلما التقى الصفان عاد جماعة من قواد إبراهيم إلى نوح، وانهزم الباقون، وأخذ إبراهيم أسيراً، فسمل هو وجماعة من أهل بيته، سلمهم نوح.